10 May، 2024 صفات يحبها الله ورسوله (1) تزكية النفس

  الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله، وبعد،، زكاة النفس وصلاحها من أهم الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم والمسلمة، وصدق الله تعالى حيث قال: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا{([1]). وتظهر أهمية الحديث عن تزكية النفس بالنظر إلى الواقع الذي نعيشه اليوم وغلبة النظرة المادية فيه على الناس، وتلوث الفطر والنفوس بكثير من الآفات والشهوات التي قد أفرزتها الحياة المعاصرة التي صبغ الناس فيها بصبغة غريبة غربية على الفطرة وعلى النفس المستقيمة النقية. والذي ينظر نظرة سريعة إلى الواقع المعاصر يستطيع أن يتبين إلى أي حدّ فسدت فطر الناس وعقولهم وعقائدهم وعباداتهم ومعاملاتهم وأخلاقهم وتردت سلوكياتهم إلى هوّة بعيدة ساحقة بينها وبين السلوك الإسلامي الصحيح بون شاسع، ومسافة بعيدة. فعلى مستوى العقيدة نجد أن كثيرًا من الناس قد تعلقت قلوبهم بغير الله رغبة ورهبة وطمعًا وخوفًا، فاتجهت قلوبهم إلى عباد أمثالهم يعتقدون ولايتهم وصلاحهم بالحق أو الباطل فدعوهم من دون الله تعالى، وقربوا إليهم النذور والذبائح والقرابين، واستغاثوا بهم من دون الله تعالى وتضرعوا إليهم لجلب نفع أو دفع ضر، والله تعالى يبين لهم حقيقة ضلالهم بقوله تعالى: }إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ{([2]). وطائفة أخرى قد ساءت ظنونهم في كتاب الله تعالى وسنة نبيه r وصلاحيتها لإصلاح أمور معاشهم وتدبير أمورهم، فتعلقت قلوبهم بدونه سبحانه ممن هم أسفل الخلق وأراذلهم وأبعدهم عن الهداية إلى الصراط المستقيم. فاتجهوا إليهم بقلوبهم وعقولهم، وتطلعت إلى باطلهم أبصارهم، وأخذتهم زخارف الباطل وبهارجه، فضلوا عن سواء السبيل. هذا على مستوى العقيدة، أما على مستوى العبادة، فقد انصرف كثير من الناس عن أداء العبادة الأساسية المفروضة وهي الصلاة فضلاً عن انصرافهم عما دونها من العبادات. والبقية الباقية الذي يؤدون هذه العبادة إذا نظرنا إلى حال أكثرهم وهم جمهور المصلين، فإننا نجد أن هذه العبادات قد فقدت روحها لديهم وصارت أشبه بالعبادات اليومية من الطعام والشراب ونحوها؛ وذلك لأن أغلب الناس صاروا يؤدونها بلا خشوع ولا تدبر ولا تفكر فيما يتلون أو يتلى عليهم، هذا فضلاً عن عدم التزام أكثرهم بشروط صحة هذه العبادة وأركانها وفرائضها فضلاً عن سننها ومستحباتها. أما على مستوى المعاملات فقد فشا بين الناس الغش والخداع والكذب والظلم وأكل حقوق الناس وأموالهم بالباطل، وأخذ الرشوة، والتعامل بالربا وما لا يحل من العقود. وأما من ناحية الأخلاق والآداب والسلوك فحدث ولا حرج، والواقع خير شاهد على فساد الأخلاق والسلوك لما هو ظاهر مشاهد من شيوع العُري والسفور والتبرج والاختلاط المحرم بين الشباب والفتيات فضلاً عما تطالعنا به الصحف كل يوم من حوادث الاغتصاب والقتل والسرقة والنهب وتعاطي المسكرات والمخدرات وغير ذلك. ناهيك عن فساد الآداب والسلوك على مستوى الأسرة نفسها حيث تباح الخلوة بين الرجال والنساء الأجنبيات ويباح الاختلاط بينهم بغير تحفظ ولا تقيد بقيود شرعية، وغياب السلوك الإسلامي في جميع مظاهر الحياة الأسرية لدى أغلب الأسر في طعامهم ولباسهم وخروجهم وتنزههم وغير ذلك. كل ذلك يدعونا إلى وقفة نحاسب فيها أنفسنا ونحاول إصلاح فسادها وتخليصها من الرذائل، والعمل على تحليتها بالفضائل، وتنمية جوانب الخير فيها. وهذا هو مفهوم التزكية في أوضح صورها. تعريف التزكية: التزكية: تخلية وتحلية وتنمية. فالتزكية: هي تخلي النفس عن الرذائل، والتحلّي بالمكارم والفضائل، وتنمية الخير بشرعيّ الوسائل. فالتزكية تدور معانيها في اللغة حول ثلاثة معان، هي: التطهير والإصلاح والتنمية. فتأتي التزكية بمعنى التطهير: يقال زكىّ ماله أي طهره، وزكىّ نفسه أي طهرها من دنسها ورجسها. قال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا{([3])، وقال تعالى على لسان موسى لفرعون: }هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى{([4])، وقال أيضًا: }خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا{([5]). وتأتي بمعنى الإصلاح: يقال زكا الرجل أي صلح، قال تعالى: }وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا{([6]). وتأتي أيضًا بمعنى التنمية والتكثير: يقال: زكا الزرع إذا كثر ونما وطاب. قال تعالى: }قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى{([7])، فمن تزكى أي تطهر وأصلح نفسه وأقبل على الصلاة وذكر الله تعالى زاد خيره، وزكت نفسه، ونمت فضائلها وكثرت. وبهذه المعاني الثلاثة وردت التزكية الشرعية، فهي تطهير للنفس من أرجاسها وأدناسها ورذائلها، وهي إصلاح للنفس بتعويدها الفضائل وتحليتها بالمكارم. وهي تنمية لجوانب الخير في النفس البشرية، وتعهدها وتربيتها حتى تصل إلى درجة سامية من درجات الكمال الإنساني وذلك بالوصول إلى درجة العبودية الحقّة لله رب العالمين. التزكية أولاً: ينبغي البدء بالتزكية أولاً وقبل كل شيء، فهي بداية الطريق. فها هو موسى عليه السلام يدعو فرعون إلى طريق الله تعالى فيبدأ الطريق معه من التزكية، وذلك بأمر من الله تعالى حيث يقول لموسى عليه السلام: }اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى{([8]). التزكية إذًا هي البداية، وهي الخطوة الأولى في الطريق إلى الله تعالى. وموسى عليه السلام نفسه يعدّه ربه سبحانه وتعالى لحمل هذه الرسالة، فيبدأ في تكليفه بما يزكي نفسه أولاً، ويهيؤها لحمل أعباء وتبعات هذا الأمر العظيم. قال تعالى: }وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً{([9]). وهذه الليالي هي التي أمر الله تعالى موسى أن يجتهد فيها في عبادة الله تعالى، وأن يتقرب إليه فيها بالصوم والصلاة ففرض عليه صيامها تطهيرًا لنفسه وتزكية لها قبل لقاء ربه لتلقي ألواح التوراة حتى يكون أهلاً لحمل هذا الأمر العظيم، وحتى يأخذه بقوّة وجدّ، وذلك كما قال تعالى ليحيى عليه السلام: }يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ{([10])، وذلك بعد ما أتاه رشده وزكاة نفسه حيث قال عقبها: }وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا{. ولما كان بنو إسرائيل قومًا غلاظًا جفاة قاسية قلوبهم لم يستجيبوا لموسى فيما دعاهم إليه من تزكية نفوسهم وإصلاحها، ولذا لم ينتفعوا بالتوراة ولا بالعلم الذي جاء به موسى إليهم. بل لم يكن منهم إلا اللجاجة والعناد، والدليل على ذلك أن خيار بني إسرائيل ذهبوا مع موسى عليه السلام في لقائه لربه وسمعوا كلام الحق سبحانه وتعالى لموسى من وراء الجبل، ومع ذلك قالوا له كما يحكي القرآن عنهم: }لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً{([11]). ثم اختلفوا بعد ذلك فيما بينهم بعد ما جاءهم العلم حسدًا وبغيًا من بعضهم على بعض، كما أخبر القرآن الكريم عنهم حيث قال: }فَمَا اخْتَلَفُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ{([12]). فرغم أنهم كانوا على علم ومعرفة بالحق الذي أنزله الله تعالى فإنهم اختلفوا فيما بينهم وحاد أكثرهم عن الحق الذي يعرفونه بغيًا وعدوانًا من أجل معاداة طائفة وموالاة أخرى، أو لأجل عَرَض من الحياة الدنيا. وأكبر دليل على ذلك أنهم عرفوا صفة محمد r في التوراة وعرفوا أنه النبي الحق المنتظر مجيؤه في آخر الزمان؛ ومع ذلك لم يؤمنوا به ولم يتبعوه. محمد r النموذج الأسمى في تزكية النفس: وحينما أراد الله تعالى أن يمن على البشرية بالهداية وبإخراجهم من الظلمات إلى النور اطلع إلى أهل الأرض فاصطفى منهم أزكاهم قلبًا وعقلاً ونفسًا، وأوحى إليه ما يزكي به نفسه، فتزداد به نفسه زكاة وطهرًا وقداسة، فأوحى إليه أن يتعبد في غار حراء فكان يتعبد فيه الليالي الطويلة ذوات العدد فتقول عائشة –رضي الله عنها-: "أول ما بدئ به رسول الله r الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يخلو في غار حراء، فيتحنث فيه الليالي ذوات العدد ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها حتى جاءه الحق في غار حراء، فقال له الملك: اقرأ! قال: ما أنا بقارئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال اقرأ! قلت: ما أنا بقارئ! قال: فأخذني فغطني الثانية ثم أرسلني فقال: }اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الإنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5){([13]). فرجع بها ر سول الله r إلى خديجة ترجف بوادره. فهذا يدلنا على ضرورة البدء بالتزكية حتى تتأهل النفس لحمل أمانة هذا الدين، وهذا ما بدأ به الله تعالى مع رسوله r حيث حبّب إليه الخلاء في مبدأ أمره فكان يخلو في غار حراء يتحنث، أي يتعبد وأصل التحنث هو التخلص من الحنث وهو الذنب والإثم، فهي عملية تطهير للنفس بالتوبة والاستغفار وذكر الله تعالى والتفكر في نعمه وآلائه والتوجه إليه بالضراعة والحمد والثناء.. إلخ ما يقرب العبد إلى ربه من صور العبادة وأنواعها. وكان هذا الأمر ضروريًا قبل تحمل النبي r أمانة الرسالة؛ وقبل أن يوحى إليه بهذا الوحي المعجز بما يحمله من أعباء وتكاليف ثقيلة حملها النبي r وتنوء بحملها الجبال. التزكية أولاً أم التعلم؟ قد يفاضل بعض الناس بين التزكية والتعلم ليجزم بأولوية أحدهما وأحقيته بالتقديم، فيرى البعض أن التزكية أحق بالتقديم على العلم، ويرى البعض بأن العلم أحق بالتقديم، ولكننا نحب أن نوضح أمرًا مهمًا في هذه النقطة يزيل هذا الإشكال وهو أن نبين أن العلم منه ما هو فرض عين يلزم كل مسلم تعلمه لحاجته إليه في عبادته اليومية أو فيما يخصه هو بعينه من الأمور. فهذا لابد له من تعلمه بنفسه وتحصيله له، وهذا مثل تعلم أصول العقيدة الصحيحة التي تجب معرفتها على كل مكلف، ومعرفة أحكام العبادات اللازمة له كالصلاة والصيام والزكاة والحج ونحو ذلك، ومعرفة أحكام المعاملات الضرورية التي يحتاج إليها ويمارسها في حياته اليومية، ومعرفة ما ينبغي أن يكون عليه المسلم من الأخلاق والآداب الإسلامية القويمة. ومنه ما هو فرض كفاية يتعلق بما لا حاجة للمسلم فيه في وقته الحاضر، ولكنه قد يحتاج إليه في مستقبل حياته أو يحتاج إليه غيره من الناس فيجد جوابه عنده، وذلك كمسائل الميراث ودقائق العبادات والمعاملات ومعرفة قواعد العلوم وأصولها كمعرفة أصول الحديث وأصول الفقه ونحو ذلك كالتعمق في علوم اللغة العربية نحوها وصرفها وبلاغتها فالنوع الأول من العلوم، وهو ما يختص بما هو فرض عين على المكلف هو ما يلزم المسلم معرفته والعمل به في مرحلة تزكية نفسه وإصلاحها، ومن ثم فهذا القسم من العلوم لا ينفك عن عملية التزكية وليس هناك مفاضلة بينه وبين التزكية لأنه جزء من التزكية الشرعية الصحيحة لا تتم إلا به. وذلك لأن التزكية المطلوبة ليست مجهولة الوسائل، وليست متروكة إلى المكلف ليحدد لنفسه الوسائل التي يقوّم بها نفسه؛ بل إن وسائل هذه التزكية لابد أن تكون هي الوسائل المشروعة التي بينها الله تعالى في كتابه وأرشدنا إليها النبي r في سنته؛ وذلك لا يكون إلى بتعلم تلك العلوم التي يمكن أن نسميها بعلوم التزكية فلا يصح للمبتدئ أن يبدأ بدراسة القواعد والأصول والمصطلحات ونحو ذلك قبل أن يلم بالعلوم الأساسية التي يستطيع من خلالها أن يمارس التزكية الشرعية الصحيحة لنفسه قبل الخوض قدمًا في طريق العلم الأكاديمي. ([1]) الشمس: 9، 10. ([2]) الأعراف: 194. ([3]) الشمس: 9، 10. ([4]) النازعات: 18. ([5]) التوبة: 103. ([6]) النور: 21. ([7]) الأعلى:  14، 15. ([8]) النازعات: 17-19. ([9]) الأعراف: 142. ([10]) مريم: 12. ([11]) البقرة: 55. ([12]) الجاثية: 17 ([13]) العلق: 1-5.