10 May، 2024 الإعجاز المعجمي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم (لا يفرك مؤمن مؤمنة) د عبد الحميد هنداوي

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ» أَوْ قَالَ: «غَيْرَهُ»([1]) وقفت أمام هذا الحديث لأتفكر في سر اختيار النبي صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة (يفرك) دون مرادفاتها (يبغض - يكره - يضايق - يؤذي ..إلخ) لأنتهي في النهاية إلى تميز هذه الكلمة في موقعها على بدائلها المشتركات معها في ذلك الحقل الدلالي والسياقي. وقد انطلقت في ذلك من خلال البحث الأسلوبي الذي ينظر إلى البدائل المشتركة مع الكلمة ليبحث تميز المبدع في اختيار هذه الكلمة دون غيرها ، والبحث الأسلوبي له جوانب شتى على مستوى المفردات وعلى مستوى التراكيب والصور ؛ على المستويات الصوتية والمعجمية والصرفية والنحوية. وإذا نظرنا إلى هذه الكلمة في معاجم اللغة نجد لها في الاستعمال معنيين أساسيين:  الأول :  دلك الشيء حتى ينقلع: قال ابن منظور:" الفَرْك: دَلْكُ الشَّيْءِ حَتَّى يَنْقَلِعَ قِشْرُه عَنْ لبِّه كالجَوْز، فَرَكه يَفْرُكه فَرْكاً فانْفَرَك. والفَرِكُ: المُتَفَرِّك قِشْرُهُ. واسْتَفْرَك الحبُّ فِي السُّنْبُلة: سَمِنَ وَاشْتَدَّ. وبُرٌّ فرِيكٌ: وَهُوَ الَّذِي فُرِكَ ونُقِّي. وأَفْرَك الحبُّ: حَانَ لَهُ أَن يُفْرك. والفَرِيك: طَعَامٌ يُفْرك ثُمَّ يُلَتّ بِسَمْنٍ أَو غَيْرِهِ، وفَرَكْتُ الثَّوْبَ وَالسُّنْبُلَ بِيَدِي فَرْكاً. وأَفْرَكَ السنبلُ أَي صَارَ فَرِيكاً، وَهُوَ حِينَ يَصْلُح أَن يُفْرَك فَيُؤْكَلَ " ([2]) والثاني : " بغْضَةُ الرَّجُلِ لامرأَته أَو بغْضة امرأَته لَهُ، وَقَدْ فَرِكَتْه فِرْكاً أَبغضته. قَالَ رُؤْبَةُ: فَعفَّ عَنْ إسْرارِها بَعْدَ الغَسَقْ، ... وَلَمْ يُضِعْها بَيْنَ فِرْكٍ وعَشَقْ([3]) وَرَجُلٌ مُفَرَّك: لَا يَحْظى عِنْدَ النِّسَاءِ، أوَتُبْغِضهُ النِّسَاءُ، وامرأَة مُفَرَّكة: لَا تَحْظَى عِنْدَ الرِّجَالِ ، قَالَ أَبو عُبَيْدٍ: وَلَمْ أَسمع هَذَا الْحَرْفَ فِي غَيْرِ الزَّوْجَيْنِ. وَفِي الْحَدِيثِ: " لَا يَفْرَك مؤمنٌ مُؤْمِنَةً " أَي لَا يُبْغِضها كأَنه حَثَّ عَلَى حُسْنِ الْعِشْرَةِ وَالصُّحْبَةِ "([4]) ومن هنا نقف على سر اختيار النبي صلى الله عليه وسلم كلمة (فرك) لأن الفرك حك شيء بغرض إزالته وإخراجه من مكانه؛ كما تحك وتدلك وتفرك القشرة لإخراجها من الحبة؛ فكذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن البغض الذي يؤدي إلى المضايقة الدائمة المتكررة حتى يفضي إلى إخراج المرأة بطلاقها. ([5]) فللكلمة معنيان : دلك الحبوب اليابسة لإزالة قشرتها الرقيقة الخارجية التي حول اللب ، والثاني : البغض الذي يحدث بين الزوجين أو من أحدهما الذي يؤدي إلى المفارقة والطلاق ، والمتأمل يجد أن المعنى الثاني له صلة وثيقة بالمعنى الأول ، لكنها خفية لم يتعرض لها أحد من الشراح ، ففرك الحبوب الذي هو إزالة القشرة عن اللب لا يتم إلا بعد جفاف الحبة تماما ومن ثم يسهل إزالة القشرة بعد أن ضعفت الرابطة بين القشرة واللب ، فهذا الانفصال لا يحدث إلا بزوال الرطوبة بين القشرة واللب فيستحيل بعدها الاتصال بينهما ، كذلك الفرك بين الزوجين لا يحدث إلا بزوال الحب بينهما فيسهل حينها الفرقة والانفصال ، فعلاقة الزوجين أشبهت علاقة القشرة بالحبة إذا انمحى الحب وزالت المودة سهل الانفصال ، ومن ثم كانت كلمة  ( الفرك ) في مكانها من السياق وموقعها من الكلام الأجدر على أداء المعنى ، فالفرك يؤدي معنى لا يؤديه على سبيل المثال البغض ، الكره ؛ لأنه بغض يتبعه مفارقة وكره يردفه طلاق . ([6]) ومن المعلوم أن الإيمانُ داعٍ لمكارِمِ الأخْلاقِ، فلا يَخلُو المُؤمِنُ والمؤمِنةُ مِن خلُقٍ حسَنٍ؛ فالإيمانُ يَستلزِمُ وجودَ خِصالٍ مَحمودةٍ فيهما. وفي هذا الحَديثِ يَقولُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «لا يَفرَكْ مؤمنٌ مؤمِنةً»، والفَرْكُ: البُغْضُ والكُرْهُ، والمُرادُ بالمؤمِنِ والمؤمِنةِ هنا الزَّوجُ والزَّوجةُ، قيلَ: هذا نَفيٌ في مَعنى النَّهيِ، أي: لا يَحصُلُ البُغضُ التامُّ لها؛ وقيلَ: هو نَهيٌ، أي: يَنبَغي للزَّوجِ ألَّا يُبغِضَ زَوجتَه بُغضًا شَديدًا يؤدِّي إلى ظُلمِها وتَركِها وإعْراضِه عنها، ثُمَّ علَّلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ذلكَ بأنَّه إنْ كَرِهَ الزَّوجُ منها خلُقًا سيِّئًا، وجَدَ فيها خلُقًا مُرْضيًا، كأنْ تكونَ شَرِسةَ الخُلقِ؛ لكنَّها دَيِّنةٌ، أو جميلةٌ، أو عَفيفةٌ، أو رَفيقةٌ به، أو نحوُ ذلك، فيَرضَى بهذا الخلُقِ الحَسنِ الَّذي يوافِقُه، فيُقابِلُ هذا بذاك، فيَحمِلُه ما رَضيَ منَ الحَسنِ، على الصَّبرِ على ما لا يَرضَى مِنَ السيِّئِ، فيَغفِرُ سيِّئُها لحَسنِها ويَتغاضَى عمَّا يَكرَهُ لمَا يحِبُّ، فلا يُبغضُها بُغضًا كليًّا يَحمِلُه على فِراقِها. وفي الحَديثِ: الحَثُّ على حُسنِ العِشْرةِ والصُّحبةِ. ([7]) ويمكننا أن نتفكر في تميز هذه الكلمة (يفرك) دون مرادفاتها (يبغض - يكره - يضايق - يؤذي ..إلخ) من خلال البحث الأسلوبي باختبار هذه البدائل في موقع هذه الكلمة؛ فنجد أن التعبير بالبغض أو الكره لا يحقق هذه الدلالة لأنها تجمع بين معنى البغض ومعنى المضايقة والفرك الذي يعبر عن قلق الحياة وعدم استقرارها؛ كما أن التعبير بالمضايقة أو الأذية وحدها لا يكافئ هذه الكلمة ؛ لأن بعض المضايقة وبعض الإيذاء الرفيق قد يكون مقصودا للتأديب كما في قوله تعالى:{وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } [النساء: 34] ولكن هذه الكلمة (يفرك) تتميز بالجمع بين دلالتي البغض وما ينتج عنه من الفرك والأذى والمضايقة التي تفضي غالبا إلى الطلاق فتنفرك المرأة من بيت الزوجية وتخرج منه كما تنفرك الحبة من القشرة التي تحفظها وتصونها.   ([1])صحيح مسلم – النكاح – باب الوصية بالنساء – ح/61 - (1469) (2/ 1091)،وينظر: شرح النووي على مسلم (10/ 58) [قال: محمد فؤاد عبد الباقي]: [ش (لا يفرك مؤمن مؤمنة) قال أهل اللغة فركه يفركه إذا أبغضه والفرك البغض] ([2])لسان العرب (ف – ر – ك) - (10/ 473) ([3])لسان العرب (ف – ر – ك) - (10/ 474) ([4])لسان العرب (ف – ر – ك) - (10/ 474) [5])مستفادة من إحدى حلقات برنامج بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم للدكتور عبد الحميد هنداوي على إذاعة القرآن الكريم ، وقد أعاد نشرها على قناته على اليوتيوب. ([6]) التوجيه البلاغي للغريب في الحديث النبوي - ص 119 - كريم محمد صديق - رسالة ماجستير أشرف عليها أ.د عبد الحميد هنداوي - كلية دار العلوم - القاهرة - 2016م ([7])(موسوعة الدرر السنية على الشبكة العنكبوتية)