28 April، 2024 وإنك على خلق عظيم

وإنك على خلق عظيم([1])

الحمد لله رب العالمين ، وأصلي وأسلم على الصادق الأمين ؛ من أرسله ربه رحمة للعالمين.

لقد وصفه الله تعالى بكمال خلقه ، وكمال عقله ، وزكاة بصره ، وصدق لسانه، وطهارة قلبه، وانشراح صدره ، وقوة مُعلِّمه.

فلقد وصفه بكمال عقله فقال: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 1، 2]،وقال:{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2]

ووصفه بزكاة بصره فقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] ،ووصفه بصدق لسانه فقال: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3]،ووصفه بطهارة قلبه وصدقه فقال: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]،ووصفه بانشراح صدره فقال: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1]،ووصفه بقوة معلِّمه فقال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5]، ووصفه كلَّه بكمال الخلق الإنساني فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]

إن محمدا – صلَّى الله عليه وسلَّم – هو نموذج الكمال الإنساني في أسمى صوره وأرقاها، لقد تدرَّج الله تعالى في الرقي بهذا الإنسان حتى بلغ به غاية الكمال في مثال محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – لقد بلغ به درجةً من الرقي والكمال لا مزيد عليها ؛ بل إن البشرية - بعد بلوغ غاية الكمال المحمدي – في انحدار وسُفل وتناقص عن ذلك النموذج الأسمى للخلق الرفيع.

ومعنى ذلك أن الكمال الإنساني لم يتحقق للبشرية إلا في نموذج محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – أما قبله فقد كانت البشرية في نقص عن ذلك النموذج الإنساني ،وأما بعده فلم تزل البشرية تتناقص في الكمال الإنساني حتى تنتهي إلى درجة من الانحدار تشبه ما قبل مبعثه – صلَّى الله عليه وسلَّم – فحينئذ يأذن الله بخراب الدنيا وانقضائها وقيام الساعة ؛ فلا تقوم على أحد يقول : الله الله.([2])

وإذا كان من الممكن أن نقول – تجاوزا – إن القرآن الكريم هو الدستور النظري لكمال الخلق الإنساني ؛ فيمكننا القول إن محمدا – صلَّى الله عليه وسلَّم – هو التطبيق العملي لذلك الدستور النظري لكمال الخلق الإنساني.

فلقد كانت حياته – صلَّى الله عليه وسلَّم – كلها في جميع جوانبها تطبيقا لما حوى ذلك الدستور القرآني للخلق الإنساني الكريم.

ولقد صدقت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وأصابت كلَّ الإصابة حيث لم تجد وصفا تصف به كمال الخلق المحمدي سوى أنه كان تطبيقا للقرآن ؛ فقالت – رضي الله عنها – حينما سئلت عن خلق النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – "كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ"

فعَنْ سَعْدِ بْنِ هِشَامِ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: أَتَيْتُ عَائِشَةَ، فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ، أَخْبِرِينِي بِخُلُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَتْ: " كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ، أَمَا تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] "

قُلْتُ: فَإِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَبَتَّلَ، قَالَتْ: " لَا تَفْعَلْ، أَمَا تَقْرَأُ: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ} [الأحزاب: 21] حَسَنَةٌ؟ فَقَدْ تَزَوَّجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ وُلِدَ لَهُ "([3])

فبينت أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – "كَانَ على خلق عظيم كما أخبر القرآن الكريم ، وسر ذلك أنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – "كَانَ يمتثل الْقُرْآنَ في كل أموره كبيرها وصغيرها؛ ولذا جعل الله لنا فيه الأسوة الحسنة في جميع أموره – صلَّى الله عليه وسلَّم .

ولذا لما استفتاها ذلك السائل فيما يريد الإقدام عليه من التبتل وهو الانقطاع للعبادة نهته عن فعل ذلك ؛ لأن النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – لم يفعله ؛ بل تأسَّى – صلَّى الله عليه وسلَّم – بأحوال النبيين من قبله ، وامتثل القرآن الكريم فيما أخبر به من أحوالهم ؛ حيث قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً } [الرعد: 38]

فكأنها تضرب بذلك مثالا ودليلا على ما ذكرته من أن خلقه – صلَّى الله عليه وسلَّم – كان تطبيقا للقرآن الكريم وامتثالا له.

وإذا سلمنا لأم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – أنه – صلَّى الله عليه وسلَّم – "كَانَ خُلُقُهُ القرآن" لأنها أعلم الناس بأحواله الظاهرة والخفية ؛ فمعنى ذلك أننا لن نجد خلقا كريما دل القرآن عليه إلا وهو مطبق في حياة محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – وأقواله وأفعاله أصدق وأتم تطبيق.

فكل ما أخبر عنه القرآن - من تقوى الله والصدق والأمانة والعدل والإحسان والبر والوفاء والكرم وسائر الخصال الكريمة – كل ذلك نجده في أخلاق محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم.

وحينما اتهمه الكافرون بالجنون ردَّ عنه ربه تلك الفرية ؛ فأقسم رب العزة على انتفاء الجنون عنه واتصافه بكمال العقل وكمال الخلق ؛ قال تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ }([4]) [القلم: 1 - 4]

فماذا بعد شهادة الملك العليم لرسوله الكريم؟!

ولقد وصفه ربه بكمال الحرص على المؤمنين مع كمال الشفقة عليهم والرأفة والرحمة بهم؛ فقال تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ([5]) حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]

ووصفه بلين الجانب والرقة والرحمة والتواضع للمؤمنين فقال سبحانه:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159]

وبين ربه سبحانه أن رحمته – صلَّى الله عليه وسلَّم – ليست خاصة بأتباعه فقط بل عامة للناس جميعا ؛ قال تعالى: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]

كذلك فقد وصفه ربه بأنه قد أرسله للناس كافة بشيرا ونذيرا؛ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]

فهو – صلَّى الله عليه وسلَّم – محب لخير البشرية، حريص على نجاتهم من العذاب والهلاك ؛ لذا فهو مبشر لهم بالخير والسعادة والرضوان في الدنيا والآخرة لمن أطاع الله ، ومنذر ومخوف لهم – حرصا عليهم – من مخالفته سبحانه.

كما وصفه القرآن الكريم بأنه يزكي أمته ويعلمهم الكتاب والحكمة؛ فالرسول هو الذي يزكي أمته أي يطهرهم من رذيل الأخلاق، ويصلح فاسدها، وينمي جميلها وصالحها، كما يعلمهم الكتاب المنزل عليه ويبين لهم أحكامه ، ويعلمهم الحكمة في الأمور كلها بسنته النبوية الغراء.

قال تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة: 151، 152]

وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]

وقال تعالى:{ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 2، 3]

وإذا ثبت هذا أي تزكيته – صلَّى الله عليه وسلَّم – للناس وتعليمهم الكتاب والحكمة فقد ثبت للنبي– صلَّى الله عليه وسلَّم – كمال الخلق وكمال العلم والفهم ؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه ؛ فما كان الله تعالى ليأذن لنبيه – صلَّى الله عليه وسلَّم – أن يكون معلما للناس مزكيًّا لهم ، دون أن يكون له النصيب الأوفى من العلم والخلق.

ولذا فقد أثبت له ربه صفة هداية الناس في مواضع عديدة من كتابه ؛ فقال تعالى:

{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)} [الشورى: 52، 53]

وقد فصل القرآن وعدد كثيرا من أخلاق محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – حتى ذكر شدة حيائه – صلَّى الله عليه وسلَّم – من رفاقه وأصحابه؛ فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53]

فأثبت للنبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – صفة الحياء ؛ فكان يستحيي أن يطلب من أصحابه الانصراف من بيته مع حاجته للراحة وأن يخلو بأهله.

شهادة أصحابه له بكمال الخلق:

لقد شهد أصحاب النبي له – صلَّى الله عليه وسلَّم – بكمال الخلق وجميل الخصال في المقال والفعال؛ وشهادتهم معتبرة في ذلك ؛ من حيث إنهم هم المطلعون على كثير من أموره وأحواله لطول صحبتهم له ؛ فما رأوا منه – صلَّى الله عليه وسلَّم – إلا كل جميل ، وما وقف أحدهم على سقطة أو خطأ أو غلطة ؛ بل لم يروا منه إلا ما يدل على وافر الحلم ، وكامل العلم.

لقد شهدوا له – صلَّى الله عليه وسلَّم – بالحياء ،وهو خير كله([6])

فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أَشَدَّ حَيَاءً مِنَ العَذْرَاءِ فِي خِدْرِهَا»([7])

 والحياء صفة جامعة لخلال كريمة ؛ حتى جعله النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – من شعب الإيمان. ([8])

ومما يدل على حيائه وحلمه وعفوه وصبره وحكمته معا – صلَّى الله عليه وسلَّم –

ما ورد عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: " كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ، فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ جَبْذَةً، حَتَّى رَأَيْتُ صَفْحَ - أَوْ صَفْحَةَ - عُنُقِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَعْطِنِي مِنْ مَالِ اللهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ، فَضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ " ([9])

ومع حلمه وعفوه وصبره وحكمته فقد كان – صلَّى الله عليه وسلَّم – عند غارة عدو ونحوه كَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ ، وقد شهد له أصحابه بذلك.

فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ»

وَلَقَدْ فَزِعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَانْطَلَقَ نَاسٌ قِبَلَ الصَّوْتِ، فَتَلَقَّاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَاجِعًا، وَقَدْ سَبَقَهُمْ إِلَى الصَّوْتِ، وَهُوَ عَلَى فَرَسٍ لِأَبِي طَلْحَةَ عُرْيٍ، فِي عُنُقِهِ السَّيْفُ وَهُوَ يَقُولُ: «لَمْ تُرَاعُوا، لَمْ تُرَاعُوا» قَالَ: «وَجَدْنَاهُ بَحْرًا، أَوْ إِنَّهُ لَبَحْرٌ» قَالَ: وَكَانَ فَرَسًا يُبَطَّأُ. ([10])

وختاما: الفضل ما شهدت به الأعداء:

استشهدنا فيما سبق على كمال أخلاقه – صلَّى الله عليه وسلَّم –بالقرآن الكريم ، وهو كلام الله تعالى ، وهو أصدق القائلين، واستشهدنا كذلك بما شاهده أهله وأصحابه من عموم أحواله ، وهم المطلعون على سائر أحواله الظاهرة والخفية ؛ فشهادتهم دليل صدق رسالته وكمال خلقه.

ولكن أقوى الأدلة – في هذا المقام – بلا منازع هو شهادة أعدائه له بالصدق والأمانة والبر والوفاء وحسن الخلق وغير ذلك.

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] وَرَهْطَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ، خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى صَعِدَ الصَّفَا فَهَتَفَ: «يَا صَبَاحَاهْ» فَقَالُوا: مَنْ هَذَا؟، فَاجْتَمَعُوا إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا تَخْرُجُ مِنْ سَفْحِ هَذَا الجَبَلِ، أَكُنْتُمْ مُصَدِّقِيَّ؟» قَالُوا: مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا، قَالَ: «فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» قَالَ أَبُو لَهَبٍ: تَبًّا لَكَ، مَا جَمَعْتَنَا إِلَّا لِهَذَا؟ ثُمَّ قَامَ، فَنَزَلَتْ: {تَبَّتْ يَدَا [ص:180] أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] ([11])

فانظر كيف شهد له أعداؤه بالصدق ونفي الكذب بأبلغ عبارة فقالوا:" مَا جَرَّبْنَا عَلَيْكَ كَذِبًا"

وفي حديث معاوية بن سفيان قبل إسلامه مع هرقل يسأله عن أخلاق محمد ص وصفاته:"قَالَ: فَمَاذَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ؟ قَالَ: يَأْمُرُنَا أَنْ نَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ نُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَيَنْهَانَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا، وَيَأْمُرُنَا بِالصَّلاَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ، فَقَالَ لِتَرْجُمَانِهِ حِينَ قُلْتُ ذَلِكَ لَهُ: قُلْ لَهُ: إِنِّي سَأَلْتُكَ عَنْ نَسَبِهِ فِيكُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُ ذُو نَسَبٍ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ تُبْعَثُ فِي نَسَبِ قَوْمِهَا، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ قَالَ أَحَدٌ مِنْكُمْ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ: لَوْ كَانَ أَحَدٌ مِنْكُمْ قَالَ هَذَا القَوْلَ قَبْلَهُ، قُلْتُ رَجُلٌ يَأْتَمُّ بِقَوْلٍ قَدْ قِيلَ قَبْلَهُ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَدَعَ الكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَقُلْتُ لَوْ كَانَ مِنْ آبَائِهِ مَلِكٌ، قُلْتُ يَطْلُبُ مُلْكَ آبَائِهِ، وَسَأَلْتُكَ: أَشْرَافُ النَّاسِ يَتَّبِعُونَهُ أَمْ ضُعَفَاؤُهُمْ، فَزَعَمْتَ أَنَّ ضُعَفَاءَهُمُ اتَّبَعُوهُ، وَهُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ، وَسَأَلْتُكَ: هَلْ يَزِيدُونَ أَوْ يَنْقُصُونَ، فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ، وَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، فَكَذَلِكَ الإِيمَانُ حِينَ تَخْلِطُ [ص:47] بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ، لاَ يَسْخَطُهُ أَحَدٌ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَغْدِرُ، فَزَعَمْتَ أَنْ لاَ، وَكَذَلِكَ الرُّسُلُ لاَ يَغْدِرُونَ." ([12])

وفي الحديث شهادة أعدائه له – صلَّى الله عليه وسلَّم – بأمره وعمله بمكارم الأخلاق ؛ حيث شهدوا أنه يأمر بِالصَّلاَةِ، وَالصَّدَقَةِ، وَالعَفَافِ، وَالوَفَاءِ بِالعَهْدِ، وَأَدَاءِ الأَمَانَةِ ، وأنه ذو نسب فيهم ، وأنه لا يكذب ، وأنه لا يغدر ، وأن ضعفاء الناس يتبعونه ، وأنه لا يرتد منهم أحد عن دينه كارها له بعد دخوله فيه ومعاينته ما فيه من السمو بالإنسان والرقي به.

أقوال المنصفين من غير المسلمين في محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم :

إن أقوال المنصفين من الغرب في محمد – صلَّى الله عليه وسلَّم – كثيرة تحتاج إلى دراسات عديدة مستقلة تعرض لها وتبين ما لها وما عليها؛ لكن يعنينا هنا شهادتهم له أنه قدم النموذج الإنساني الكامل للإنسانية في أسمى صورها، وأنه نجح في أن يرفع المستوى الروحي و الأخلاقي لشعب الجزيرة العربية إلى قمة سامية بعد أن طحنتهم المعارك الدامية. ([13])

وشهادتهم أن محمَّدًا - صلى الله عليه وسلم - كان الرجل الوحيد في التاريخ الذي استطاع أن يُحقِّق نجاحًا عاليًا على المستويين الديني والدنيوي. ([14])

([1])مقال للأستاذ الدكتور عبد الحميد هنداوي – الأستاذ بكلية دار العلوم – جامعة القاهرة.

([2])في صحيح مسلم – كتاب الإيمان - 66 - بَابُ ذَهَابِ الْإِيمَانِ آخَرِ الزَّمَانِ - ح/ 234 - (148) (1/ 131) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " لَا تَقُومُ السَّاعَةُ عَلَى أَحَدٍ يَقُولُ: اللهُ، اللهُ "

([3])مسند أحمد – تحقيق شعيب الأرنؤوط - عادل مرشد، وآخرين - طبعة الرسالة (41/ 149)

([4])جاء في تفسير الطبري = جامع البيان تحقيق محمود شاكر (23/ 528):"وقوله: (مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ) يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ما أنت بنعمة ربك بمجنون، مكذِّبا بذلك مشركي قريش الذين قالوا له: إنك مجنون."

([5])جاء في تفسير البغوي – طبعة طيبة (4/ 115):"{عَزِيزٌ عَلَيْهِ} شَدِيدٌ عَلَيْهِ، {مَا عَنِتُّمْ} ... أَيْ: عَنَتُكُمْ، وَهُوَ دُخُولُ الْمَشَقَّةِ وَالْمَضَرَّةِ"

([6])صحيح مسلم – كتاب الإيمان – باب شعب الإيمان - ح/60 - (37) (1/ 64)

([7])صحيح البخاري – كتاب المناقب - بَابُ صِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ح/ 3562 (4/ 187)، وأخرجه مسلم في الفضائل باب كثرة حيائه صلى الله عليه وسلم رقم 2320

([8])جاء في صحيح البخاري – كتاب الإيمان – باب أمور الإيمان - ح/9 (1/ 11) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ «الإِيمَانُ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً، وَالحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ»، وأخرجه مسلم في الإيمان باب بيان عدد شعب الإيمان وأفضلها وأدناها رقم 35

([9])مسند أحمد ط الرسالة (20/ 21) بإسناد صحيح كما قال محققه.

([10])صحيح مسلم – كتاب الفضائل - 11 - بَابٌ فِي شَجَاعَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَتَقَدُّمِهِ لِلْحَرْبِ - ح/ 48 - (2307) (4/ 1802)، [شرح محمد فؤاد عبد الباقي] [ش (لم يراعوا) أي روعا مستقرا أو روعا يضركم (وجدناه بحرا) أي واسع الجري (يبطأ) معناه يعرف بالبطء والعجز وسوء السير].

([11])صحيح البخاري – كتاب تفسير القرآن - بَابُ قَوْلِهِ: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] – ح/ 4971 (6/ 179)، ومسلم في الإيمان - 89 - بَابٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ح/355 - (208) (1/ 192).

([12])صحيح البخاري كتاب الجهاد - بَابُ دُعَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّاسَ إِلَى الإِسْلاَمِ وَالنُّبُوَّةِ، وَأَنْ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ – ح/2941 - (4/ 45)، وأخرجه مسلم في الجهاد -  26 - بَابُ كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى هِرَقْلَ يَدْعُوهُ إِلَى الْإِسْلَامِ ح/- (1773)(3/ 1393).

([13])لتفصيل ذلك ينظر: كتاب "قصة الحضارة"؛ للمؤرِّخ والفيلسوف الأمريكي  ويل ديورانت،4/ 174، طبعة دار Simon & Schuster NEW YORK سنة 1950.

([14])من كتاب "العظماء مائة"؛ للكاتب والمؤرخ الأمريكي اليهودي: ميشيل هارت  - الكتاب طبعة دار (KENSINGTON PUBLISHING CORP). لسنة 1978 و 1992 (ص: 3(.