10 May، 2024 من جماليات الفرائد الفذة في التعبير القرآني – بقلم أ.د / السيد سالم

من جماليات الفرائد الفذة في التعبير القرآني بقلم أ.د/ السيد سالم أستاذ النقد والأدب والبلاغة بكلية اللغات والاتصال- جامعة السلطان زين العابدين- ماليزيا الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا. فكان الآية العظمى، والمعجزة الكبرى، والدلالة القاطعة، والحجة الساطعة على صدق الوحي، وعظمة الموحِي. والصلاة والسلام على رسوله الأمين، ونبيه الكريم، الذي أدى الأمانة، وبلّغ الرسالة، ونصح الأمة، فكان حجة الله على الخلق. ورضوان الله على الصحب الكرام، والأئمة الأعلام، الذين بذلوا وضحوا من أجل أن ينقلوا إلينا هذا الدين؛ أداءً للأمانة، ووفاءً للعهد؛ لننقله نحن لمن يأتي وراءنا من الأجيال وهكذا تستمر الحياة والرسالة، ويُحفظ الشرع، إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولا، وبعد: فإن للأسلوب القرآني جمالاً يخلب اللب، ويجذب القلب، لن تجده في أي كتب سابقة أو لاحقة، ولا حتى في نتاج الفحول من الأدباء ولا في إبداع الأفذاذ من الشعراء؛ الذين اشتهروا بتملك ناصية اللغة والتمكن من زمامها، والتصرف في طرائقها والتفنن في أساليبها؛ إذ إن القرآن من أوله إلى آخره يجري على نظام بديع من العلو في دقة الصياغة وجمال اللفظ، وعمق المعنى، وروعة التعبير، رغم تنقله بين قضايا شتى، وموضوعات متنوعة، ومواقف متباينة؛ إضافةً إلى ذلك ما اتسمت به اللفظة القرآنية من اتساقها الكامل مع المعنى، وجمال وقعها في السمع، واتساع دلالتها ومعانيها. وتلك حقيقة لا مراء فيها ولا جدال حولها، حتى حار في نظمه -وإلى الآن- فحول علماء العربية والبيان. ولهذا انكب المسلمون على القرآن الكريم بشغف منذ نزوله؛ يتدبرون آياته، ويتفهمون معانيه التي تحويها ألفاظه، فحفظوه عن ظهر قلب، وجمعوه في مصحف واحد، وعكف العلماء على تبيان معاني غريب مفرداته، ووضعوا فهارس ومعاجم لألفاظه، وكتبوا في تفسيره وبلاغته وإعجازه. ولاتزال مسيرة التأليف والبحث في هذا المجال مستمرة حتى أيامنا هذه؛ لأن كلمات الله - تعالى - لا تنفد معانيها، ولا تنتهي عجائبها، وسيظل الإنسان يجد في آياته معيناً لا ينضب لبحثه وفكره وعقله وحياته. ومثل هذا يستحق أن نقف عنده مبجِّلين؛ خاضعين لباريه ومسبحين بحمد بانيه! ولقد كثُر الحديث حول إعجاز القرآن بل أصبح من الفرض اللازم والواجب اللازب؛ لذا اجتهد علماء التفسير والكلام، وأساطين البلاغة والبيان، بدءاً من القرون الأولى يصنفون التآليف في مشكله وغريبه ومجازه، حتى وضع الإمام عبد القاهر الجرجاني مؤسس علم البلاغة كتابيّه ( أسرار البلاغة ) و( دلائل الإعجاز )؛ لإثبات ذلك بطريقة فنية، وقواعد علمية، واشتهرت بعض كتب العلماء في هذا المجال، وبخاصة كتاب ( إعجاز القرآن ) للقاضي أبي بكر الباقلاني شيخ النُّظار والمتكلمين في عصره. وبدأت تظهر الكتب والمؤلفات تَتْرى حول القرآن بعناوينها المختلفة، واهتماماتها المتعددة عبر تلك العصور؛ ولكن إن كان ذلك قد وفّى بحاجة الأزمنة التي صنعت فيها تلك الكتب، فهو لا يفي بحاجة هذا الزمان؛ إذ هي داعية إلى قول أجمع، وبيان أوسع، وبرهان أنصع في أسلوب أجذب للقلب، وأخلب للُّب، وأصغى للأسماع، وأدنى للإقناع، يتناسب مع عقول هذا الزمان، وأدعى للإقبال بطريق أسهل، وعرض أيسر. ويكاد يُجمِعُ العلماء على أنه لم ينل كتاب في الدنيا دراسات فيه وحوله مثلما نال القرآن الكريم، بيد أنه رغم استبحار الدراسات القرآنية، ووفرتها؛ إلا أن القرآن لا يزال يستنهض الباحثين لمزيد من البحث في آفاقه الممتدة التي لا تتوقف عند حد (قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا) الكهف:109؛ ولأن القرآن هو خاتم الكتب السماوية إلى يوم الدين، إذن ستظل معجزاته باقية ببقائه، لا تنفد عجائبه، ولا تنقضي غرائبه. ومن هنا فالقرآن زاخر بالمعجزات المتنوعة والمتعددة، ومهما أُعطي البشر جميعاً بلاغة في الخطاب، وقوة في البيان، وفصاحة في التبيان لن يأتوا بمثل ما جاء فيه ولو اجتمعوا ( قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء:88 ويأتي هذا المقال لِيُثْبِت سر تفرد كلمات القرآن الكريم وألفاظه عامة، ولا سيما بعض الألفاظ والمفردات بصفة خاصة، والتي لم تتكرر في القرآن كله، حتى جذرها نفسه لم يكرر، فجاءت على نحو غير مسبوق ونُظِّمت بطريق غير مكرر بين ثنايا آي القرآن الكريم، فتميزت بطريقة تركيبها، وتخصصت بنظم حروفها، وتفردت في سياقها، واتسقت بروعة عرضها، في نظام لغوي محكم من لدن حكيم خبير، والتي أطلق عليه العلماء قديماً "الفرائد". واتبعت في وصفها بالفذة طريقة أستاذي الدكتور كمال عبد العزيز (حفظه الله ورعاه). ويتأتى سر الفريدة البلاغيّ، وإعجازها البيانيّ، في اختلاف اشتقاقاتها من خلال هيكلها التركيبيّ، وبنيتها الصرفية، ووقع أصوات حروفها، وما تشعه من ظلال دلالية على النص، وما تضيفه من روابط سياقية، وما تضفيه من تعلقات قوية بين ما قبلها وما بعدها بحيث لا يغني غيرها مكانها. والذي لا يتأتى لغيرها من المرادفات المشابهة أو القريبة منها، والتي تحمل نفس المعنى الدلالي؛ فضلا عن أنها تعبر تعبيرا بليغا عن أدق التفاصيل بأقل عدد من الكلمات بل من الحروف في نظام محكم بديع دون أن يُخِل َّ بالسياق في جرس موسيقي يأخذ بالأسماع، ويستحوذ على ما بين الأضلاع. ومع ما للفرائد من مكان ومكانة؛ إلا أننا نلحظ من خلال الواقع اللغوي المعاصر أن مما يزيد على ربع هذه الألفاظ وتلك الكلمات لا تكاد تستخدم في كلام الناس وحتى في كتابات المثقفين منهم، بل إن نسبة كبيرة منها هي ألفاظ غير مستخدمة، ومجهولة المعنى حتى لدى المتخصصين في اللغة، ولعل هذا المقال يساعد في التعريف بهذه الكلمات كخطوة أُولى نحو تعميم المعرفة بها وباستخدامها، وهي- فيما نرى - خطوة مهمة لتيسير فهم القرآن، ومعايشته بطريقة مغايرة لما هي عليه الآن. والفرائد تمثل ظاهرة واضحة في التعبير القرآني لم تحظ من الدارسين قديماً إلا ببعض التعريفات المتواترة مع بعض الشواهد من القرآن والنثر والشعر، ولم يتطرق بحثهم فيها إلى وجودها كظاهرة في الأسلوب القرآني. وفيما يتعلق بالدراسات لها حديثاً؛ فهي إما لغوية، أو جزئية أو معجمية أو بلاغية دون الوقوف على أسرارها وأسباب تفردها في سياقها، أو الاقتصار فقط على عدد منها دون التعرض لها كلها، إضافةً إلى نظرة بعض المتأخرين من البلاغيين إليها، على أنها من الفنون العرضية التي تجلب لإظهار الاقتدار والتمكن والفصاحة لا البلاغة. ولهم مطلق الحرية في إبداء آرائهم؛ ومع هذا فكلها دراسات لها وزنها وثقلها. ومن هنا فإن دراسة الفرائد الفذة على نحو متكامل يعد أمراً ضرورياً؛ أي تناولها لغوياً: أي من جهة معناها وما  ذكرته المعاجم عنها - وصرفياً: أي من جهة اشتقاقاتها وفي أي قالب جاءت وعلى أي بنية تركيبية شُكِّلت - وصوتياً: أي من جهة صفات حروفها من شدة ورخاوة ولين وقوة وجهر وهمس وعلو واستفال وتفخيم وترقيق، وهل تناسبت وتناغمت أصوات حروف هذه الفريدة مع ما دلَّت عليه من معنى واتسقت مع الجو العام للآية التي وردت فيها – وبلاغياً: أي من جهة ما تنطوي عليه الفريدة من نكات بلاغية ولمسات بيانية وأسرار ولطائف فنية؛ يؤكد إعجاز القرآن البيانيّ والبلاغيّ عن طريق التعبير بهذه الفرائد بين طيات سوره وآياته مع اختلاف المقامات والسياقات التي وردت فيها. ولقد يسر الله للعبد الفقير الوقوف عليها كلها ودراستها دراسة مستقلة تشملها بجميع تقسيماتها اللفظية واشتقاقاتها اللغوية، فرصدت صورها، واستجليت – جاهدا - بعض ما تشعه في ذلك البيان الخالد من قيم وأسرار، مع الإحساس العميق بأن حقل الدراسات القرآنية في حاجة ماسة إلى مزيد من البحوث اللغوية والبلاغية التي تكشف عن أسراره وتجلي خواص الجمال في أسلوبه. إضافة إلى ذلك أن البلاغيين واللغويين لَمَّا وقفوا عندها، لم يكن هذا الوقوف - في الأعم الأغلب - من أجل تحليلها، والوقوف على دورها التعبيري والتأثيري في السياقات التي وردت فيها، ومعرفة الأسرار البلاغية التي تقف وراءها. بل كان لأغراض أخرى؛ لهذا وقع عليها الاختيار منذ البدء؛ لتكون شغلنا الشاغل. ولعله قبل الختام نسوق المثال؛ ليتجلى الكلام ويتبدى للعيان ما فيها من جمال وجلال؛ وسنكتفي هنا بعرض فريدتين، الأولى لفعل ماض والأخرى لاسم فعل: - (أَفْضَى): ورد في قوله تعالى:ﭽ ﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ    ﭨ  ﭩ  ﭪﭼ . النساء :21،  وسياق هذه الآية هو كيفية معاملة النساء وخاصة عند الطلاق. والفعل أفضى من الفضاء: الواسع من الأرض، أفضى: خرج إلى الفضاء، ثم عبّر بالإفضاء عن الجماع. والفعل (أفضى) معبر جداً عن مراده؛ حيث يلمس جانباً وجدانياً عميقاً في نفوس الرجال، وهي تذكيرهم بلحظات حانية، وأوقات ممتعة، وهي ذروة سنام النشوة واللذة عندهم، في تعبير موحٍ عجيب، والسياق القرآني، ولقد علق الأديب سيد قطب عليه قائلا:" يدع الفعل: (أفضى) بلا مفعول محدد. يدع اللفظ مطلقا، يشع كل معانيه، ويلقي كل ظلاله، ويسكب كل إيحاءاته، ولا يقف عند حدود الجسد وإفضاءاته. بل يشمل العواطف والمشاعر، والوجدانات والتصورات، والأسرار والهموم، والتجاوب في كل صورة من صور التجاوب. يدع اللفظ يرسم عشرات الصور لتلك الحياة المشتركة آناء الليل وأطراف النهار، وعشرات الذكريات لتلك المؤسسة التي ضمتهما فترة من الزمان...، وهذا الحشد من التصورات والظلال والأنداء والمشاعر والعواطف يرسمه ذلك التعبير الموحي العجيب: وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ».. فيتضاءل إلى جواره ذلك المعنى المادي الصغير، ويخجل الرجل أن يطلب بعض ما دفع، وهو يستعرض في خياله وفي وجدانه ذلك الحشد من صور الماضي، وذكريات العشرة في لحظة الفراق الأسيف". وبالتالي نجح هذا الفعل في الإيفاء بالغرض الذي سيق من أجله، واللفظ يتناسب مع جلال وجمال القرآن من التعبير عن أدق العلاقات الزوجية دون إسفاف أو تقصير أو تزوير، بل يختار ألفاظاً معبرة تماماً دون خدش للحياء، أو إثارة للغرائز أو تأجيج للعواطف، واللفظ أفضى يختلف عن قوله تعالى: ( لامستم )؛ لأن دلالته اللغوية توحي بالاتساع ليدع لك فرصة توقع أي علاقة تتم بين الزوجين دون تصريح، فهي أبلغ من ( الجماع )؛ لأن الجماع له مدلول واحد، ولكن ( أفضى ) تعبر عن كل ما يدور بين الزوجين من مشاعر وأحاسيس وعواطف مترجمة عملياً أو كامنة في القلب، أما ( لامستم ) فقد تنسحب على اللمس الحقيقي لأن من الفقهاء أمثال الشافعي من قال بأنه اللمس الحقيقي يعني الجلد بالجلد وليس شرطاً أن ينسحب على الجماع وحده، وسياق ( لامستم ) التي وردت فيه خاص بمواضع التي يجب فيها الطهارة، وليس خاصاً بالحديث عن علاقات زوجية وخلافه، وبالتالي كان الفعل ( أفضى ) أبلغ، إضافةً إلى ذلك هو  استعمال حرف الجر بعده (إلى) أبلغ من ( لــــ ) وكأنه نقلٌ كامل وتام لكل ما يربط الرجل بالمرأة؛ ولذا لا يغني غيره؛ لأن الإفضاء فيه اتحاد وامتزاج كلي، مع الستر والخصوصية، وكذا فيه دفء واحتواء وستر وزينة، وهذا ما لا يتوفر في الفعل (لامستم) الذي يوحي بالسرعة دون التركيز على المشاعر والعواطف والأحاسيس التي تخلل مثل هذه الأعمال. وأخيراً نلاحظ أن التعبير القرآني يطرح مثل هذه الأمور بأسلوب حضاري مهذب؛ حيث يؤدي الغرض بطرحٍ فذٍّ فيه الفنية والجمالية والطرفة مع الحشمة والحياء. - (هَيْتَ): ورد في قوله تعالى:ﭽﭚ  ﭛ  ﭜﭼ.يوسف:23 وسياق هذه الكلمة هو الحديث عن يوسف وما جرى له من أحداث في بيت العزيز، وما حاولت زوجته فعله معه من مراودة وإغواء، بعد أن وقعت في حبه وغرامه. وأصل الكلمة هو: "(هِئْتُ لك) بمعنى تهيأت لك، وهو: "اسم فعل بمعنى أقبل وتعالَ"، والمدقق في الفعل يلحظ أنه بدأ بالهاء وهي حرف همس ورخاوة، وبالتاء وهي كذلك، ويتوسطه حرف لين، وكأنه يدلُّك على الحالة النفسية التي كانت عليها من رعْب وخوف ومراقبة من أن يطَّلع على هذا الأمر أحد؛ خشية أن تفضح ويكشف أمرها، فتعرض نفسها للوم والعتاب وهي منْ هي!، وهذا الجرس الصوتي للفعل يؤكد أن الباطل دائماً صوته ضعيف وخفيض، والحق صوته قوي وعال. وكذا ما في اللفظ من رقة ونعومة وتمايل يخرج من امرأة مترفة منعمة ذات حسن وجمال، تمتلك قدرات وملكات يضفيها عليها ما هي فيه من نعيم وعز  وسلطان وخدم وحشم...إلخ، وهذا اللفظ يؤدي ويحقق الغرض الذي من أجله وُضع في السياق، وقلة عدد حروف الفعل توحي بمدى عجلتها في قضاء إربها، وكذا حرصها على عدم إضاعة الوقت في الكلام، فإن همها تحقيق رغبتها بإطفاء نار الشهوة المتأججة داخلها، لذا عبرت بأقل حروف ممكنة، وظهر هذا الحرص كذلك في بناء الفعل السابق له وهو" غلَّقت" من تشديدٍ للفعل دلَّ به على التكثير والمبالغة في الإيثاق وشدة الإحكام، وما سبق ذلك من مراودة وتحضير لهذا الموقف. والفعل هنا في هذا السياق أوقع وأنسب، فلا يوحي بنفس ظلاله وما أضفاه على السياق لو قالت: (أَقْبِلْ- تعال- ادنُ) أو ما في معانيها. وبدا جلياً حرصها على تأكيد هذا الاستعداد، وذلك التهيؤ له فقط بقولها: "لك" بالتعبير بحرف الجر مع ضمير المخاطب، وقد ألمَّ اللفظ (هيت) بكل ألوان الضعف البشري في أشد درجاته وأشدها ضراوة على النفس البشرية، وهي لحظة الضعف الجنسي، وأكد هذا ما تلته من: "ولقد هَمَّ بها وهمَّت به"، وعبَّر القرآن بلفظ بسيط في تركيبه ولكنه يحوي في طياته كل معاني الطاقة والاستعداد والقوة والعنفوان والانطلاق، وكلمة (هيت لك) فيها من الجذب والإغراء والفتنة ما يقود النفس الأمَّارة بالسوء للاستجابة، ولكن الله سلَّم وعصم ولطف، بعد أن أغلقت هي أبواب السكن فتح الله عليه أبواب العصمة، بعد استغاثته به بقوله: ( معاذ الله ) فلم يضره ما أُغْلِق بعد إكرامه بما فُتِح. وبهذا ظهر سر تفرد هذا اللفظ دون غيره في ذلك السياق. ومن خلال عرض هاتين الفريدتين الفذتين تبين للقارىء الكريم كم انطوت الفرائد على أسرار إعجازية وكنوز بلاغية ودرر لغوية. وأخيرا لا أدعي في هذا المقال أني قد بلغت الغاية، بل هو غيض من فيض؛ وما ذكرته من توجيه الفرائد إنما اجتهدت رأيي ولم آلُ، وليس لي موئلٌ إلاَّ أن أُقر بعجزي عن الوصول إلى كثير من الأسرار الدقيقة للفريدة؛ إذ إن أسرار القرآن لا يحدها حصر فيعرب عنها ناطق بفمٍ، ولا سبيل لي إلاَّ أن أتمثل بقول الخطيب الإسكافي(٤٢٠ه)؛ إذ يقول: " إذا أورد الحكيم تقدست أسماؤه آية على لفظةٍ مخصوصة، ثم أعادها في موضعٍ آخر من القرآن، وقد غيّر فيها لفظة كما كانت عليه في الأولى، فلابد من حكمةٍ هناك تُطلَب، فإذا أدركتموها فقد ظفرتم ، وإن لم تدركوها فليس لأنه لا حكمة هناك، بل جهلتم ". ويحضرني قول الرافعي؛ إذ يقول: "هذا وقد قلنا بمقدار ما فهمنا، وما شهدنا – يعلم الله - إلا بما علمنا. على أننا إن كنا قد عجزنا، ووعدنا الكلام أكثر مما أنجزنا، فلا ضير أن نصف النجم في سراه، وإن لم نستقر في ذراه، ونستدل بما رأينا منه، وإن لم ننفذ فيما وراه، وإذا خطر الفكر الضئيل في مثل هذه الحقيقة السامية فقل إنها خطرة طيف، وإذا اجتمع للقلم سواد في تلك السماء العالية فقل إنما هي سحابة صيف، ولعمر الله كيف نضرب بالغاية على تلك البلاغة التي لا تحدَّ، وكيف نمضي بعد أن كلَّ حدُّ الفكر ووقفنا عند هذا الحدّ " وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.