13 May، 2024 التصوير الفني. أ.د عبد الحميد هنداوي

التصوير الفني . أ.د عبد الحميد هنداوي

التصوير الفني في أدق معانيه وأوضحها هو ذلك النوع من التعبير الذي تستثار فيه جميع إمكانات اللغة وطاقاتها على جميع مستوياتها التعبيرية لتعبِّر عن الأفكار والمشاعر والأحاسيس والرؤى بطريقة تصويرية بارعة تتأنق فيها الألفاظ والتراكيب لتقرِّب تلك المعاني والأفكار والمشاعر إلى النفس بعرضها في صورة ملموسة يسهل تصورها ، ويستعذب الخيال تأملها ، ويطيل الوقوف إزاءها ليتأمل مدى المطابقة بينها وبين الواقع متقاربة منه ، أو متسامية عليه محلقة في آفاق من الخيال والجمال. والحق أن أمر التصوير الفني والبياني أوسع من أن يحد بحدٍّ أو صور بيانية بعينها ؛ بل تتميز نماذجه بروعة التصوير وجماله سواء كان على مستوى الحقيقة أو المجاز. أما على مستوى التصوير الفني باستثمار طاقات الألفاظ والتراكيب على مستوى الحقيقة فنحن نقع في القرآن الكريم على نماذج رائعة تؤكد هذه السمة الأدبية، خصوصًا في القصص القرآني، وفي رسم المشاهد الأخروية من نعيم وعقاب، ففي الحوار بين الأنبياء والطغاة لقطات فنية مبنية على لغة مباشرة مؤثرة في الوقت نفسه وذات مخزون عاطفي، وفي رسم جزئيات النعيم، والنار وأهوالها ما يفزع ويهز القلوب خصوصًا أنه يتبع ويشفع بإبراز الموقف الشعوري للعصاة، كما في قوله U: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)} [سورة القصص: الآيات:39-42]. ([1]) ولك أن تتأمل – على سبيل المثال روعة التصوير لحال المنافقين وما انطبعت عليه نفوسهم من الجبن والخوف والهلع في قوله تعالى :" لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ "(التوبة:57) حيث تعجب لدقة التصوير الفني والجمالي في مثل هذا الموضع – من خلال استثمار طاقات الألفاظ والتراكيب على مستوى الحقيقة دون الاستعانة بشيء من المجاز أو التصوير البياني - على اختلاف فنونه وتنوعها – فتعجب كيف صوَّر هذه الصورة المتحركة التي لا تصوِّر المشاهد الظاهرة فحسب ؛ بل تصوِّر كذلك دواخل هؤلاء المنافقين وما انطبعوا عليه من الجبن والخوف والهلع وشدة الحرص على الحياة والتعلق بها ؛ فتراهم يبحثون عن أي ملاذ لهم معبرا عن شدة حرصهم على الحياة وتمنيهم لها بأداة  الشرط (لو) وبالمضارع الدال على استمرارية هذا التمني وتجدده منهم (يجدون) مع ما في دلالته المعجمية على معنى البحث والتفقد ، ثم التعبير بصيغة المكان (ملجأ) والإتيان بها منكرة في سياق الشرط لإفادة العموم ؛ فهم يتمنون أي ملجأ يحتمون به ولو كان حقيرا دنيئا ، ثم في التعبير بـ(أو)التي تفيد التخيير والتنويع لتدل هنا على استواء تلك الملاجئ لديهم ؛ لأن ما يغلب على تفكيرهم ، ويهجم على نفوسهم هو محاولة اللجوء والاحتماء بأي سبب من الأسباب ، ثم في جمع (المغارات) مع ما في دلالتها المعجمية من معاني الغور والبعد والاختفاء ، ثم لك أن تتأمل جمال التعبير في صيغة اسم المكان (مدَّخلا) المأخوذة من الفعل (يدَّخل) – على صيغة (يفتعل) التي تأتي لتكلف الشيء ومحاولته ليصوّر لك شخصا يحاول أن يحشر نفسه في مكان ضيق حشرا بنوع من التكلف والمحاولة والمبالغة في الفعل ، ثم في التعبير بلام التوكيد في (لولَّوا) مع التعبير بالتولِّي وما فيه من معنى الهروب والفرار والجبن والتخاذل والهلع وغير ذلك من المعاني التي تأتي محمولة على اللفظ ، ولا يقوم بها لفظ دونه ، ثم التعبير بـ(إلى) التي تفيد التوجه والقصد إلى تلك الأماكن على بعد المسافة عنها مسارعة في اللجوء إليها والاحتماء بها ، ثم في التعبير بتلك الجملة الحالية التي تصور حالهم وما صاروا إليه من الخوف والهلع الذي صوره القرآن من خلال جموح البصر وجحوظه وثباته نحو تلك الملاجئ لا يحول عنها ولا يزول ، وذلك من خلال دلالة الجملة الاسمية على الثبات والدوام على تلك الصفة. وفي قوله تعالى في سورة القصص: { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ(12)} نلاحظ أن الصور البيانية المعهودة تكاد تنمحي ، بينما يبرز واضحا ذلك التصوير الفني لذلك المشهد المهم من مشاهد القصة - والذي يمثل نقلة نوعية مهمة في أحداثها – ذلك التصوير الفني الذي توظف فيه إمكانات اللغة الحقيقية على كافة مستوياتها اللغوية لرسم هذه الصورة الحية وتصوير هذا المشهد ، فنفهم لماذا امتنع موسى عن تناول أثداء المرضعات رغم حاجته إليها رضيعا ، ونكاد نسمع ونرى أخته وهي تعرض هذا العرض في لهفة ومغامرة وإغراء للقوم . وهكذا تصور الصورة ، ويعرض الحدث المهم الذي لا يحتاج لشيء من تكلف الزينة اللفظية لعرضه لأن قيمته إنما هي في تصويره كما هو ، والحال في ذلك حال المصور لجرائم الحرب والدمار الذي يحل ببعض البلاد ؛ فهو لا يكاد يجد تعبيرا أوضح ولا أكثر تأثيرا من عرض الصورة كما هي في عالم الحقيقة. ولك أن تتصور كذلك براعة التصوير وجماله في هذه الصورة الكلية الحقيقة التي يرسمها رب العزَّة – جلَّ وعلا للكون بعد إهلاك الكافرين من قوم نوح بالطوفان ، وإنجاء نوح والمؤمنين معه في سفينة النجاة في قوله تعالى : " وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" (هود:44) "وهل تشك إذا فكرت في قوله تعالى: " وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين " . فتجلى لك منها الإعجاز، وبهرك الذي ترى وتسمع! أنك لم تجد ما وجدت من المزية الظاهرة والفضيلة القاهرة، إلا لأمر يرجع إلى ارتباط هذه الكلم بعضها ببعض، وأن لم يعرض لها الحسن والشرف إلا من حيث لاقت الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة؟ وهكذا، إلى أن تستقريها إلى آخرها، وأن الفضل تناتج ما بينها، وحصل من مجموعها. إن شككت فتأمل! هل ترى لفظة منها بحيث لو أخذت من بين أخواتها، وأفردت لأدت من الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها من الآية؟ قل: ابلعي واعتبرها وحدها من غير أن تنظر إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، وكذلك فاعتبر سائر ما يليها. وكيف بالشك في ذلك ومعلوم أن مبدأ العظمة في أن نوديت الأرض، ثم أمرت، ثم في أن كان النداء بـ( يا ) دون (أي) نحو: يا أيتها الأرض. ثم إضافة الماء إلى الكاف دون أن يقال: ابلعي الماء، ثم أُتبع نداء الأرض وأمرها بما هو من شأنها، ونداء السماء وأمرها كذلك بما يخصها. ثم أن قيل: وغيض الماء. فجاء الفعل على صيغة (فُعِل) الدالة على أنه لم يغض إلا بأمر آمر وقدرة قادر. ثم تأكيد ذلك وتقريره بقوله تعالى: " قضي الأمر " . ثم ذكر ما هو فائدة هذه الأمور، وهو " استوت على الجودي " . ثم إضمار السفينة قبل الذكر كما هو شرط الفخامة والدلالة على عظم الشأن. ثم مقابلة قيل في الخاتمة بـ( قيل ) في الفاتحة. أفترى لشيء من هذه الخصائص التي تملؤك بالإعجاز روعة، وتحضرك عند تصورها هيبة تحيط بالنفس من أقطارها تعلقاً باللفظ من حيث هو صوت مسموع، وحروف تتوالى في النطق؟ أم كل ذلك لما بين معاني الألفاظ من الاتساق العجيب؟"([2]) ففي هذا النص السابق يبين لنا عبد القاهر الجرجاني أن اتّساق المعاني – في هذا النص وغيره - لم يكن إلا لاتساق الألفاظ وحسن تركيبها وتناسقها ، وهو أمر تتضافر في تحقيقه علوم البلاغة وفنون القول جميعها في القديم والحديث ؛ وذلك أنه لا ينكر ذو ذوق روعة التصوير لهذا الحدث الجلل في الآية السابقة ، ولا يستطيع عالم كذلك من علماء البلاغة نسبة تلك الروعة ، أو تفسير مظاهر الجمال في هذه الآية في ضوء فنون البيان المعهودة المحدودة فقط ؛ إذ ليس في الآية تشبيه ولا كناية ولا شيء من المجاز المعهود إلا بضرب من التكلُّف والتمحُّل في القول بشيء منها ؛ اللهم إلا في استعارة البلع للأرض – وإن كان ذلك أيضا مما يجري مجرى الحقيقة -  أتراك تتجاهل كلَّ ما بُيِّن لك من مظاهر الجمال في الآية النابع من تناسق ألفاظها وانسجام حروفها ثم تبحث بعد ذلك كلِّه عن صورة جزئية تنسب لها الفضل كتلك الاستعارة . وماذا عسى أن تكون تلك الاستعارة في تلك الصورة المتلاحمة الأجزاء ؛ حيث كلُّ كلمة فيها ؛ بل كل حركة إنما هي جزء لا يتجزأ من نسيج تلك الصورة الرائعة ، ومما يزيد تلك الصورة روعة ما نشاهده فيها من الحركة والحياة ؛ فثمة أمر إلهي للأرض فإذا هي تستجيب على الفور فتبلع ماءها فكأنما هي قد انقلبت حوتا عظيما يبلع تلك المياه العظيمة ، وفي الوقت نفسه تؤمر السماء فتقلع عن هطولها ؛ فترى المطر ينقطع ، وترى السحاب ينقشع ، وترى صفحة السماء وقد صارت صافية ناصعة ، وتنظر إلى الماء فتراه يغيض وينقص حتى يتلاشى في لمح العين ؛ إنها صورة تفيض بالحركة ، وتظهر فيها يد القدرة تحرك هذا الكون ، وتتحكم في مقاديره. وقد تظن أن التصوير لا يكون إلا للأحداث والوقائع وحركة الأجرام والأجسام ، وتتغافل عن تصوير المعاني وحسن عرضها في أحسن صورة وأبهاها . ويمثل لذلك أيضا - عبد القاهر - بقوله تعالى: " وجعلوا لله شركاءَ الجن َّ" فيقول :"ليس بخاف أن لتقديم الشركاء حسناً وروعة ومأخذاً من القلوب أنت لا تجد شيئاً منه إن أنت أخرت فقلت: وجعلوا الجن شركاء لله، وأنك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل والسبب في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة. ومعنى جليلاً لا سبيل إليه مع التأخير. بيانه أنا وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء، وعبدوهم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى، ويفيد معه معنى آخر وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا غير الجن. وإذا أخر فقيل: جعلوا الجن شركاء لله، لم يفد ذلك ولم يكن في شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى. فأما إنكار أن يعبد مع الله غيره وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن، فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه ، وذلك أن التقدير يكون مع التقديم أن شركاء مفعول أول لجعل، ولله في موضع المفعول الثاني، ويكون الجن على كلام ثاني على تقدير أنه كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء لله تعالى، فقيل: الجن، وإذا كان التقدير في شركاء أنه مفعول أول، و لله في موضع المفعول الثاني، وقع الإنكار على كون شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء، وحصل من ذلك أن اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتخاذه من الجن، لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء كان الذي تعلق بها من النفي عاماً في كل ما يجوز أن تكون له تلك الصفة."([3]) فانظر كيف جعل ذلك التعبير من الصورة المبهجة وجعل حالك – إن غيَّرت تلك الألفاظ عن وضعها التي اتسقت عليه - حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل . وقد تكون الصورة الفنية نموذجا بشريا للخير أو الشر ، تعرضه عرضا حقيقيا ، توظف فيه أدوات اللغة وإمكاناتها دون شيء من صور البيان المعهودة من التشبيه والاستعارة والكناية ونحو ذلك . وإن شئت فتأمل هذا النموذج البشري للخيرية والكمال الإنساني لعباد الرحمن في القرآن الكريم : "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا...الآيات (72)الفرقان" ومن ذلك أيضا فيما عدَّ من صفاتهم  قوله تعالى : "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ" (19) : الذاريات أو ان شئت تأمل فيما ذكر من حسن جزائهم في الآخرة: "إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلا الْمَوْتَةَ الأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ"(57) : الدخان . فتأمَّل هل ترى فيما عُدَّ من صفاتهم أو من جزائهم شيئا من المجاز؟ أم أنك أمام صورة كلية رائعة لنموذج الخير البشري في هذا الوجود؟! وتأمل في المقابل قول الله تعالى في أضداد هؤلاء: " إِنَّ الإنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلا الْمُصَلِّينَ (22)  المعارج" ألست أمام صورة عجيبة كذلك لنموذج الشرِّ في هذا الوجود، وهو ذلك الإنسان الكافر الجاحد المعرض عن عبادة ربِّه ؟! ومع إقرارك بجمال التصوير لتلك الصورة وإحكام الصنعة فيها فإنك تقرُّ كذلك بأنه ليس ثمَّة تشبيه ولا استعارة ولا كناية ولا مجاز ! وتأمل إن شئت كذلك صور القيامة ومشاهد الأهوال والعذاب والنعيم في ذلك اليوم مما يقسم ربُّ العزَّة جلَّ وعلا على وقوعه في نحو قوله تعالى : "وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ "(15) : الطور. أفلست ترى كيف يقررهم الله تعالى يوم القيامة بحقيقة ما يرون وبأنه واقع لا شك في رؤيتهم له ليس بالسحر ولا بالخيال؟! وحتى لا يطول بنا المقام فإني أحيلك على كتاب الله تعالى لتأمل ما فيه من صور الحقائق التي لا ريب فيها من ذكر أهوال القيامة ومشاهدها ، ومن ذكر أحوال المؤمنين من المتقين والصالحين ، وأحوال أضدادهم من الكافرين والعصاة والغافلين ، وكيف كانت أحوالهم في الدنيا ، وإلام صارت مآلاتهم في الآخرة....الخ ما في كتاب الله تعالى من ذلك ونحوه من الحقائق.([4]) وتأمل تلك الصور واللوحات التي يرسمها القرآن لصفحة الكون وجماله وإبداع الخالق فيه : " أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنـزلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ" (28) : فاطر فتأمل في ذلك كلِّه جمال التصوير وروعته مع أنك لست إلا أمام حقائق لا مرية فيها ، وليس فيما يتلى عليك شيء من البيان أو التصوير المعهود مما اقتصر عليه المتأخرون في مباحث البيان . الدلالة الإيحائية في التصوير الفني: يعتمد التصوير الفني على الدلالة الإيحائية للكلمات أكثر منه على التصوير البياني المعهود "فالتصوير الفني في أدق معانيه وأوضحها هو ذلك النوع من التعبير الذي تستثار فيه جميع إمكانات اللغة وطاقاتها على جميع مستوياتها التعبيرية لتعبِّر عن الأفكار والمشاعر والأحاسيس والرؤى بطريقة تصويرية بارعة تتأنق فيها الألفاظ والتراكيب لتقرِّب تلك المعاني والأفكار والمشاعر إلى النفس بعرضها في صورة ملموسة يسهل تصورها، ويستعذب الخيال تأملها، ويطيل الوقوف إزاءها ليتأمل مدى المطابقة بينها وبين الواقع متقاربة منه، أو متسامية عليه محلقة في آفاق من الخيال والجمال." ([5]) فالألفاظ تحمل قيمًا إيقاعية تنساب في الأسماع فتتصل بالقلوب والنفوس فتلونها بألوانها، فيغدو اللفظ بجرسه موحيًا بالمعنى، فللألفاظ في القرآن الكريم معانٍ ذهنية ودلالات إيحائية تتمثل في الصور والظلال فتشكل جرس الألفاظ([6])، وتأتي الدلالة الإيحائية للفظ «تارة بجرسه الذي يلقيه في الأذن، وتارة بظله الذي يلقيه في الخيال، وتارة بالجرس والظل جميعًا»([7]). وإن من أهم الأسباب التي تحسن بها الصورة عمق المعنى وثراء الدلالة . ويمكننا أن نقسم صور وأضرب الثراء الدلالي للصورة الفنيّة إلى الأقسام التالية :
  • اتساع الدلالة المعجمية .
  • اتساع الدلالة الصوتية .
  • اتساع الدلالة الصرفية .
  • اتساع الدلالة النحوية .
  • اتساع الدلالة البيانية التصويرية.
  • اتساع الدلالة الرمزية. ([8])
  ([1] ) سيأتي الكلام عليها في الصورة الاستعارية. [2] - عبد القاهر الجرجاني - دلائل الإعجاز – ص 16 [3] - دلائل الإعجاز للجرجاني - (ج 1 / ص 84)   [4] - تأمل – على سبيل المثال : سور القيامة – المرسلات – التكوير – الانفطار – الانشقاق – القارعة – الزلزلة ..الخ ([5]) ينظر: التصوير الفني والتصوير البياني ، د/ عبد الحميد هنداوي، ص 56. ([6]) ينظر: النقد الأدبي أصوله ومناهجه، السيد قطب، (د.ت)، ص 36. ([7]) التصوير الفني في القرآن، المصدر السابق، ص 78. ([8]) البلاغة العربية – د/ عبد الحميد هنداوي – ص 99.