10 May، 2024 من وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم .. التدبر

من وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم .. التدبر   عبد العزيز بدر القطان*   إن إعجاز القرآن الكريم هو الدعامة الأولى والركيزة الأصيلة القوية التي يرتكز عليها الإسلام، وحفل القرآن الكريم بوجوه من الإعجاز التي لا تحُصى ولا تعد، غير أن أعلاها وأعظمها شأناً معجزة البيان.   ومن يتعمق بالقرآن الكريم، يفهم معنى الإعجاز وما يتضمنه من أسرار إلهية، كإبراز جمال اللفظة القرآنية وإعجازها وسر التعبير بها دون غيرها من خلال عدة سلاسل منتظمة تبين وجوه الإعجاز البلاغي في القرآن الكريم وتجذب النفوس إلى كتاب الله تعالى من خلال محاولة إبراز السر التعبيري في المفردة القرآنية، وكل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا بتدبر القرآن الكريم، والتعايش معه، يقول ابن القيّم في هذا السياق: (إذا أردت الانتفاع بالقرآن فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به، سبحانه منه إليه فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله)، لكن السؤال المهم هنا، هل كثرة القراءة والاستعجال يحققان التدبر؟ بالطبع، لا يتحقق التدبر والتعايش مع أسرار القرآن إذا لم يتوفر التأني والتعقل لما يقرأه الإنسان من آيات الذكر الحكيم، قال تبارك وتعالى: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).   ولفهم حقائق ودقائق الإعجاز، لا بد من فهم تأصيلي وعلمي أكاديمي للتدبر، غايته وطرائقه، فالتدبر لغةً هو: أن مادة الكلمة تدور حول أواخر الأمور وعواقبها وأدبارها، فالتدبر هو: النظر في عواقب الأمور وما تؤول إليه، من هنا يكون التدبر، حقيقة لغوية متفق على معناها ولم ينتقل إلى حقيقة شرعية، وإنما يفسر عند الإضافة بما يناسب المضاف إليه...، ثم إن التدبر قد أصبح حقيقة عرفية عند المفسرين والمراد بها تدبر القرآن فإذا أطلق التدبر عندهم فالمراد به أخص من المدلول العام للتدبر، كما أن هناك مصطلحات متقاربة من التدبر، أبرزها، الاستنباط فلا يمكن الاستنباط من النص قبل تدبره والتأمل في معانيه، كذلك، الفقه، وهو العلم بمقتضى الكلام على تأمله، ومن ثم التأمل، أي المراجعة أكثر من مرة، يقول البيضاوي: " أفلا يتدبرون القرآن" أي يتأملون في معانيه، وبالتالي، إن التدبر مبني على معرفة التفسير وفهم المعاني، قال الزمخشري: "فمعنى تدبر القرآن" تأمل معانيه وتبصر ما فيه"، يأتي مصطلح آخر قريب للتدبر وهو التفكر، أي تصرف القلب بالنظر في الدليل، والتدبر تصرفه بالنظر في العواق، ثم التذكر والاعتبار والاستبصار.   القرآن الكريم حثنا على تدبر آيات الذكر الحكيم، ودعانا إلى ذلك في مواضع كثيرة من آياته المباركة، حيث تعددت وتنوعت أساليب القرآن في ذلك وهذا من بلاغة القرآن واستمالته للقلوب وإعجازه، وحين نتأمل ذلك نلحظ أن القرآن الكريم تارة يحثنا على التدبر والتأمل في آيات القرآن الكريم بأسلوب صريح ومباشر، وتارة يوجه الخطاب لأصحاب العقول السليمة بأن يتدبروا آيات الذكر الحكيم التي ذكر الله فيها دلالات بينات، وتارة يسرد الله القصص القرآني للتدبر والتأمل وأخذ العظة والعبرة من أحوال السابقين، وتارة أخرى يضرب الله الأمثال في القرآن للتدبر والتعقل والتذكر، وتارة أخرى يذيل الآيات ويختمها بما يدعو إلى التدبر مع بيان العلة من ذكر هذه الآيات، قال تبارك وتعالى: (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب).   إن تدبر القرآن كما أشرنا لا يتحقق إلا بفهم معانيه، ومعرفة تفسيره، والعلم بأحكامه، وكل ذلك من واجبات الأمة المسلمة تجاهه، فإن الله تبارك وتعالى أنزل القرآن الكريم على النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم لإرشاد الناس إلى الحق ولإخراجهم من الظلمات إلى النور وقد أمر الحق تعالى بتلاوة القرآن وتدبره والعمل به والاستمساك بهديه، بدءاً من تلاوته باستمرار والحث على التلاوة، إلى جانب التجويد والترتيل، والتأني وعدم الاستعجال، فإن سلامة التلاوة وإتقان التجويد وحسن الصوت مما يزيد الفهم ويكمل الإدراك ويعين على التدبر والخشوع والانقياد، وإذا اختل النطق بالكلمة أو بإعرابها فإن المعنى يتغير أو يكون ناقصاً أو غير بيّن، قال السيوطي: "والترتيل يكون للتدبر والتفكر والاستنباط"، كما أن تحسين الصوت بالقرآن يكون أوقع في النفوس وأدعى إلى الاستماع والإصغاء إليه بل له أثر عظيم في رقة القلوب، فمن المتفق عليه بين أهل العلم أن تحسين الصوت بقراءة القرآن والترجيع والتطريب بقراءته والتغني بالقراءة كما كان يفعل أبو موسى الأشعري فالنفس تنشرح بالصوت الحسن وتقبل عليه لكن هذا مشروط بالالتزام بسلامة التلاوة وإتقان التجويد فإن سلامة النطق تزيد الفهم وتعين على التدبر.   وكما هو معلوم للمسلمين أن قراءة القرآن شفاء لما في الصدور، مما يعين المسلم على تدبر آيات الذكر الحكيم الإنصات عند سماع القرآن والخشوع واستحضار القلب والتفكر والتدبر فيما يُسمع من الآيات وقد أمرنا الله تعالى بذلك، كما في قوله تعالى: (وإذا قرأ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون)، ولا شك أن التأني في القراءة وعدم الاستعجال من أبرز ما يعين القارئ عل ىالتدبر والتعقل لما يقرأ، فينبغي على المسلم أن يقرأ القرآن بتدبر وتمعن وفهم لما يتلوه ولا يكن كل همه نهاية السورة. وكم قرأ؟ فقد ذم السلف التعجل في القراءة فقد قال ابن مسعود: "لا تهذوا القرآن كهذا الشعر... ولا يكن هم أحدكم آخر السورة"، كذلك إن علم الوقف والابتداء من الموضوعات التي لا بد لقارئ القرآن الكريم أن يعرفها ويتدبر قواعدها إذ بها يعرف المراد من الكلام، ويتبين المغزى من فصيح اللسان، ويتيسر على السامع فهم ما يتلى عليه من آيات وأحكام وبه تعرف المنازل التي يصح أن يقف عليها القارئ وذلك حتى لا يختل المعنى بوقف قبيح أو غير جائز يصرف القارئ أو المستمع عن التدبر، ومن المعلوم أنه لا يتأتى لأحد معرفة معاني القرآن ولا استنباط الأدلة الشرعية منه إلا بمعرفة الفواصل، فالوقف حلية التلاوة وزينة القارئ وبلاغ التالي وفهم للمستمع وشرف للعالم.   كما أن من أعظم من أعظم سبل تدبر القرآن الكريم وإن لم يكن شرطاً له، تذوق معاني الآيات والتعايش معها، وكان للصحابة السبق في ذلك، فلقد كانت الآيات تنزل في أمور باشروها بأيديهم أو أبصروها بأعينهم أو خاضوا غمارها فعاشوا حلوها ومرها، وفرحها وحزنها، وتكبدوا معاناتها، وأدركوا ملابساتها، فكانت الآيات تقع في قلوبهم مواقعها، يقول الزركشي في برهانه: "أصل الوقوف على معاني القرآن التدبر والتفكر فإذا كان العبد مصغياً إلى كلام ربه، ملقي السمع وهو شهيد القلب لمعاني صفات مخاطبه، ناظراً إلى قدرته، تاركاً للمعهود من علمه ومعقوله، متبرئاً من حوله وقوته، معظماً للمتكلم، مفتقراً إلى الفهم، بحال مستقيم، وقلب سليم، وقوة علم، وتمكن سمع لفهم الخطاب، وشهادة غيب الجواب، بدعاء متضرع، وابتئاس وتمسكن وانتظار للفتح عليه من عند الفتاح العليم، وليستعن على ذلك بأن تكون تلاوته على معاني الكلام وشهادة وصف المتكل من الوعد بالتشوق، والوعيد بالخوف والإنذار بالتشديد فهذا قارئ أحسن الناس صوتاً بالقرآن"، قال تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته).   من هذا المنطلق ينبغي على القارئ أن يجمع عند الوقوف على المعاني بين معنى اللفظ والمعنى المقصود في الآية ويعلم أن هذا المعنى المقصود إنما سيق لهداية الخلق أجمعين فمن استشعر ذلك أقبل على تدبره وتفهمه وكان شغله الشاغل أن يسأل نفسه: كم مرة تأثرت بالقرآن؟ بدل أن يسأل: كم مرة ختمت القرآن