النبي - صلى الله عليه وسلم – بين بيان منزلته وتواضعه الحمد لله وكفى، وسلاما على عباده الذين اصطفى، لا سيما عبده المصطفى، وآله المستكملين الشرف، أما بعد ، فقد كان النبيُّ - صلوات الله عليه - ذا منزلة عظيمة عند ربه , وإذا كان الإنسان ذا منزلة كهذه، وعرف الناس منزلته حق المعرفة سهل على نفوسهم الانقياد لأوامره , فهذه طبيعة نفوس البشر ، الانصياع والخضوع لمن عظمت صورته في نفوسهم ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾( 1 )، فهذا ما دأبت عليه النفس البشرية , لذا نرى النبيَّ - صلوات الله عليه - حريصًا على إبراز هذه المنزلة التي حباه الله بها؛ ليجمع قلوب الناس إليه , ويسهل على نفوسهم تقبل أوامره بصدر رحب , من غير أن يجدوا حرجًا من ذلك, لذا نراه - صلوات الله عليه - يقول : «فُضّلتُ على الأنبياء بسِتّ: أُعْطِيتُ جَوَامعَ الكَلِم، ونُصْرتُ بالرُّعْب، وأُحِلّت ليَ الغنائمُ، وجعلت لي الأرضُ طَهوراً ومسجداً، وأُرسِلْتُ إلى الخلق كَافَّة، وخُتِم بيَ النَّبيُّونَ» رواه البخاري ومسلم ( 2 ). فهو - صلوات الله عليه - حريص على إبراز ما فضله الله -عز وجل- به من مناقب ليست عند غيره من الأنبياء الذين اصطفاهم الله برسالته, فقد أعطي القرآن , وقُذف الرعبُ في قلوب أعدائه , وأحلت له الغنائم في الحروب , والصلاة في أي موضع والتيمم عند فقد الماء , وكونه - صلوات الله عليه - خاتم الأنبياء فلا نبي بعده . ــــــــــــــــــــــــــ ( 1 ) سورة الزخرف الآية 31 . ( 2 ) ابن الأثير – جامع الأصول – ج8 ص530 / صحيح مسلم ج1 ص371 . ويقول - صلوات الله عليه - : «أنا سَيِّدُ ولدِ آدمَ يوم القيامة، وأولُ مَنْ تَنْشَقُّ عنه الأرضُ، وأولُ شافع وأولُ مُشَفَّع» . أخرجه مسلم وأبو داود وفي رواية : «أَنا أَولُ من تَنْشَقُّ عنه الأرض فأُكْسَى الحُلّةَ من حُلَل الجنة، ثم أقوم عن يمين العرش، فليس أَحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري»( 1 ) . فهو السيد الشريف القدر، لا يضاهيه في الشرف أحد، ولا ينافسه في الخيرية مخلوق . قال المناوي:" ولما كان من شرط المتولي للجماعة الكثيرة كونه مهذب النفس قيل لكل من كان فاضلا في نفسه سيد وإطلاق السيد على النبي - صلوات الله عليه - موافق لحديث " أنا سيد ولد آدم " ولكن هذا مقام الإخبار بنفسه عن مرتبته ليُعتقد أنه كذلك "( 2 ). وجاء في ثنايا الحديث عن غزوة حنين من حديث البراء بن عازب : " فنزل ودعا واستنصر، وهو يقول:" أنا النبيُّ لا كذبَ، أنا ابن عبد المطلبِ "أخرجه البخاري ومسلم (3). قال الطيبي : "( أنا النبي لا كذب ) ليس لأحد أي يحمل هذا على المفاخرة، وقد نفى نبي الله - صلوات الله عليه - عن نفسه أن يذكر الفضائل التي خصه الله بها فخرا بل شكرا لأنعمه، فقال: ( أنا سيد ولد آدم ولا فخر ) ، وذم العصبية في غير موضع، فأنى لأحد أن يعد هذا الحديث من أحد القبيلين؟ وكان ينهى الناس أن يفتخروا بآبائهم، وإنما وجه ذلك أن نقول: تكلم بذلك على سبيل التعريف, فالنبي - صلوات الله عليه - ذكرهم بذلك، وعرفهم أنه ابن عبد المطلب الذي رُوي فيه ما رُوي وذكر فيه ما ذكر" ( 4 ) . ــــــــــــــــــــــــــ ( 1 ) ابن الأثير – جامع الأصول – ج8 ص528 / سنن الترمذي – تحقيق أحمد محمد شاكر – مكتبة مصطفى البابي الحلبي – ط2 – 1975م – ج5 ص586 . ( 2 ) المناوي – فيض القدير في شرح الجامع الصغير – ج1 ص9 . ( 3 ) ابن الأثير - جامع الأصول - ج8 ص394 / صحيح البخاري – ج4 ص30 . ( 4 ) الطيبي – شرح مشكاة المصابيح – ج10 ص3145 . لذا نراه قد اشتد غضبه - صلوات الله عليه - على عمر بن الخطاب -رضوان الله عليه- ؛ لأنه ساوى بين الحق الذي جاء به - صلوات الله عليه - وبين الذي طاله التحريف مما في أيدي أهل الكتاب، فيقول - صلوات الله عليه - لعمر لما جاءه بصحف من التوراة كان قد أخذها من رجل من اليهود : " أَمُتَهَوِّكُونَ أَنْتُمْ كَمَا تَهَوَّكَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةً وَلَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي". رَوَاهُ أَحْمد وَالْبَيْهَقِيّ (حسن)( 1 ). فكان لا بد من هذا الإجراء الحاسم؛ حتى لا يستخف الناس بالحق الذي جاء به - صلوات الله عليه - , فأخبرهم أن موسى عليه السلام - وهو من هو – لو كان حيًا وأدرك بعثة النبي - صلوات الله عليه - لما أغنته رسالته عن الإيمان بالنبي - صلوات الله عليه - والقرآن الذي نزل عليه فنسخ الشرائع السابقة عليه . إن الإقناع أو الحجاج الذي يقوم به شخص صاحب سلطة مقبول لدى كثير من الأشخاص؛ لذا فقد حرص النبي – صلوات الله عليه – على استعمال ما منحه الله إياه من النبوة والرسالة في إقناع من حوله بضرورة اتباعه ، فهو وحده صاحب الهدي المستقيم( 2 ) .
جميع الحقوق محفوظة © تفسير أ.د.عبد الحميد هنداوي